الأَنْدَلُسِيُّونَ فِي بِلاَدِ جْبَالَة وَالهَبْط
الأستاذ رشيد العفاقي
باحث في تاريخ المغرب والأندلس - طنجة
1 - مُقَدِّمَة عَامَّة
إنّ الكِتابة عن بُيُوتَات المغرب والأندلس هي مِنْ صَمِيم الكِتابة عن حضارة وتاريخ البلدين، لأنّ جُزءاً كبيراً من هذه الحضارة وذلك التّاريخ لم يَقُمْ إلا على أكْتَافِ هذه البيوتات، سَوَاءٌ في الميدان السياسي أو في المجال العِلْمِي. ومَنْ يَقُمْ بإطلالة على كُتب التاريخ والتّراجم الأندلسية سيُلاحِظُ مَا كَانَ لِعَدَدٍ من بُيُوتَات العرب والبربر في عَصْرِ الطّوائف بالأندلس مِنْ رِفْعة وشَأْنٍ في الميدان السياسي، ومَا قَامَتْ به الأُسَر العِلْمِيّة من جُهْدٍ في سبيل المحافظة على تَسَلْسُل العُلُومِ والآدَابِ. وعَلَى الرّغم من سَيْل الكِتابات التي أُلِّفَت في هذا الموضوع لا يُوجَدُ -حتى الآن- كتابٌ جامعٌ يُحْصِي أعدادهم ويُجَلِّي دَوْرَهُم في ازدهار الحضارة الأندلسية.
ويُعتبر المغرب أكبر بُلدان العالم احتضاناً للمُهاجرين الأندلسيين، فقد بدأ في استقبال أَفْوَاجِهِم مُنذ سنة 136 ﻫ المعروفة في التاريخ بسنة بَرْبَاط، مُرورا بواقعة الرّبض وما تَبِعَهَا مِنْ هِجْرَةِ القُرْطُبِيِّينَ إِلى فَاس وتأسيسهم لِعِدْوَة الأندلس، ثم ازداد تدفّق المهاجرين الأندلسيين عَلَى المغرب بعد سُقُوط الحواضر الأندلسية الكبرى كبلنسية وقرطبة وإشبيلية، واستمرّت الهجرة إليه بِشَكْلٍ فردي أو جماعي حتى سُقوط غرناطة وضياع الأندلس بالكامل عام 897 ﻫ/ 1492 م، وظلّ المغرب فاتحا أبوابه أمامهم في السنوات والعُقُود التي تَلَتْ سُقوط غرناطة حتى الجلاء الأخير للمُورِيسكيين عام 1609 م. إنَّ هِجْرة الأندلسيين إلى المغرب قديمة، وقد سَمَحَ لهم هَذَا القُدُوم المُبَكِّر أنْ يُصبحوا -مع مُرور الوقت- عناصرَ أصيلة داخل المجتمع المغربي، مُتَمَيِّزِينَ في عدد من المجالات حتى كانت القاعدة أنّه «لا يُستعمَل بَلَدِيّ مَا وُجِدَ أندلُسي»([1]). وقد عني المؤرِّخون المغاربة بإحْصاء الأُسَر الأندلسية التي استوطنت بعض مناطق المغرب، منهم: أحمد بن أبي يَعْزَى العرائشي([2])، والفقيه محمد بَرْهُون (ت.1241 ﻫ) ([3])، والفقيه مُصطفى بن محمد بُوجندار([4])، والشيخ النّسابة عبد الكبير بن هاشم الكتاني([5])، وأبو العباس أحمد الرهوني([6])، وعبد الرّحيم جَبُّور العُدِّي([7])، الفقيه محمد داود([8])، ومحمد ابن عَزُّوز حَكِيم([9]).
ومما يُلاحظ أنّ الإحْصَاء في جميع التآليف المذكورة - عَدَا تأليف الفقيه بَرْهُون - عني بالعائلات الأندلسية التي استوطنت المدن، ولم يهتم بالأُسَر التي سَكَنَت البادية، وهذا الخَصَاص هو مِنْ مَوَاطِنِ الضُّعف التي لا يزال يشكو منها البحث في هذا الموضوع. ولمّا كانت الأُسَر الأندلسية التي سَكَنَت البادية لا تزال غير معروفة لدى الباحثين وعُموم الناس، فقد رأيتُ أنّه من المفيد أنْ أتوجّه إلى إنجاز دِرَاسَة عن العائلات الأندلسية التي استوطنت القبائل الجبلية والهبطية، وأنْ أتتبَّعَ الأثر الباقي في جوانب عِدّة مِنْ حياة أندلسيي البادية كاللّهجة، وتقاليد الاحتفالات، والفلاحة، والتعليم... وغير ذلك. ومما ساعدني في إنجاز هذا البحث أنّ الجماعات الأندلسية سواء التي استوطنت البادية أو المدينة ظلّت مُحافظة على التّقاليد الأندلسية في اللِّباس والطبيخ والأعياد والفلاحة والموسيقى... إلى اليوم.
2 - النُّصُوصُ التي تُؤَرِّخُ لهجرة الأندلُسيِّين إلى منطقة جْبَالَة
يتبيّن من نَصِّ ورد بذيل كتاب "نبذة العصر"([10]). أنّ نِسْبَةً كبيرة من الأندلسيين الذين نزحوا إلى المغرب سنة 897 ﻫ/ 1492 م استوطنوا البادية، لاسيما في الشمال الذي كانت حواضره الرئيسية مُحْتَلَّة من قِبَلِ البرتغاليين كطنجة وسبتة وأصيلا والقصر الصغير، والذي يَهُمُّنا من تلك الأفواج الأندلسية المهاجرة، في هذا البحث الخاص بمنطقة جبالة والهبط، أربعُ فِرَقٍ:
1) - أهل الجزيرة الخضراء الذين خرجوا في نصف اليوم إلى طنجة، فاستوطنوا ضواحيها التّابعة لها مثل الفحص وقبيلة أنجرة وقبيلة وادراس لأن المدينة التي كان يحتلها البرتغاليون منذ عام 876 ﻫ /1471 م.
2) - أهل رُندة، وبسطة، وحصن موجر، وقرية قردوش، وحصن مرتيل، الذين استقروا بتطوان وأحوازها.
3) - أهل بَرْبَرَة وبُرْجَة وبُولة وأَنْدَرَاش الذين خَرَجُوا إلى ما بين طنجة وتطوان ثم انتقل البعض منهم إلى قبيلة بني سعيد من قبائل غمارة. وعبارة المؤلِّف "ما بين طنجة وتطوان" تعني أنهم نزلوا قُرَى قبيلتيْ وَادْرَاسْ وأنجرة، ولعلّ انتقال بعضهم إلى قبيلة بني سعيد بغمارة إنما أتى بسبب الهجمات التي كان يشنّها عليهم الجيش البُرتغالي المحتل لمدينة طنجة.
4) - أهل مرينية الذين خرجوا في يوم إلى مدينة أَزَيْلَة وما قرب منها. فلا شكّ أن هؤلاء الأندلسيين لم يتمْ لهم الاستيطان إلا في مَا قَرُبَ مِنْ مدينة أَزَيْلَة التي كانت قد احتُلت من قِبَلِ البرتغاليين منذ عام 876 ﻫ /1471 م.
ولكن المؤرِّخين يتحدّثون عن هجرات أندلسية إلى هذه المنطقة سبقت سُقوط غرناطة بحوالي ثلاثة قُرُون، وأهمّ تلك الأفواج الأندلسية هي جالية إشبيلية التي وفدت على سبتة وأحوازها في النِّصف الأول من القرن السّابع الهجري، وقد قدّر المؤرخ البرتغالي ماسكارنهاس عدد أفرادها بنحو 100 ألف نسمة([11])، غير أنّنا لا نحسب أنّ مدينة سبتة كانت قادرة على تحمّل هذا العدد الكبير من الوافدين الأندلسيين فهي مدينة صغيرة «لا تحتمل الزّحام ولا تُعِين على ما يجب من صِلَة الأرحام» كما يقول عبد الملك اليُحَانْسِي([12]). وبالتالي فإن عددا كبيرا من أفراد هذه الجالية الإشبيلية قد فضّل الاستيطان بقبيلتي أنجرة والحوْز، وسوف نتكلم على الأثر الإشبيلي البارز في الحياة المعيشية لِسُكّان أنجرة، القبيلة التي تُعتبر مدينة سبتة امتداداً لنِطَاقِها الجُغرافي. وعندما احتل البرتغاليون مدينة سبتة عام 818 ﻫ/ 1415 م تشتت أهلها على القُرى والمداشر المجاورة بقبيلة أنجرة والحوز. الشيء نفسه حصل لَمّا خرجت مدينة طنجة من يد المسلمين سنة 876 ﻫ/ 1471 م، انتقل أهلها - وكانوا في غالبيتهم مِنْ ذوي الأصل الأندلسي- إلى سُكْنى أنجرة والفحْص، فامتلأت بهم البادية، فلا غرابة إذا وَجَدْنا اليوم أنّ (٪80 من سُكّان هذا الإقليم هُمْ مِنْ أُصُولٍ أندلسية، ٪50 منهم مِنَ الفئة المورِيسكية أيْ الفوج المطرود من الأندلس من طرف مَحَاكِم التّفتيش)([13]).
3 - الأندلسيون في قبيلة أنجرة
إذا كان اتجاه الهجرة في القُرون الأولى التي تلت الفتح الإسلامي للأندلس، مِنَ المغرب إِلَى الأندلس، فإنه في العُصُور المتأخِّرة من العصر الوسيط سيتحوّل اتجاه الهجرة مِنَ الأندلس إلى المغرب. وفي هذا الإطار احتضنت قبيلة أنجرة أعدادًا هائلةً من الأندلسيين الذين أُجْبرُوا على الخروج من مُدنهم وقُراهم وجازوا البحر إلى العدوة المغربية، ولعلّ موقعها المتميز هو السبب الذي جعل المهاجرين يَحُطُّونَ رحالهم بها ولا يُغادرونها إلى مكان آخر، فهي أقرب منطقة إلى الأندلس، وبلاد جبالة هي أول رُبُوع المغرب التي يطؤها الأندلسي القادم إليه، يقول مُؤَرِّخ جْبالة الأستاذ المريني العياشي -رحمه الله- في معرض كلامه على العناصر البشرية التي استوطنت بلاد جْبالة: «غير أنّ العُنصر الجديد المهاجر من الأندلس عند سُقوط غرناطة (1492 م) وقبلها وبعدها، وإِنْ لم تكن له من المميزات ما تجعله ينفرد بها عن غيره أو يتعصّب لأصله وعاداته لأنها في مجملها كانت متشابهة ومتقاربة مع العادات الجبلية، إلا أنّ تفوّقه في الميدان العلمي والاقتصادي والاجتماعي والتِّقني جعله يملأ بعض الفراغ الذي كان حاصلا بالمجتمع الجبليّ، وبالتالي يُدْخِلُ إلى المنطقة أساليب جديدة في الميادين الاقتصادية والثقافية ونحوهما، كما ظهر ذلك واضِحًا في بعض القبائل الجبلية التي استفادت من هذه الهجرة كأنجرة والحوز وجبل حبيب وبني سعيد والشّاون وبعض القبائل الغُمارية، وهذا ما جعل بعض قبائل جْبالة تتأثر بالمَدَنِيَّةِ الأندلسية وحضارتها كما يتجلّى في القبائل التي كانت مُستهدفَة لهذه الهجرة»([14]).
لقد عرفتْ قبيلة أنجرة هِجْرتين أندلسيتين هَامّتين: الأُولى هي الهجرة الإشبيلية في أواسط القرن السّابع الهجري، والثانية جاءت بُعيد سُقُوط غرناطة عام 1492 م، تلاهما وُرُودُ موجات من الموريسكيين إلى المنطقة. إنّ طرائق عيش الإشبيليين والغرناطيين مُتَجَلِّيَّةٌ بشكل مُثير في هذه القبيلة، ومما يلفت النّاظر إلى خريطة المنطقة أنّ أغلب أسماء القرى والبلدات الأنجرية يُوجد لها نظائر في الأندلس لاسيما في مملكة غرناطة، من ذلك: الحمّة([15])، والزاوية([16])، والملالح([17])، والخوايم([18])، والمنصورة([19])، والقلعة([20])، والحومة([21])، والخندق([22])، والرّملة([23])، والرميلات([24])، والقصيبة([25])، والشطيبة (والنسبة إليها الشطيبي، وهي تصغير شاطبة)، والدّالية، والزّهَّارَة... بل إن اسم أنجرة ذاته نجد له نظيرا في الأندلس، وهي "بلدة الأَنْجَرُون، مِنْ بُشَرَّةِ غرناطة"([26]).
3-1. العائلات الأندلسية القاطنة بقبيلة أنجرة
الأُسر الأندلسية التي استوطنت قبيلة أنجرة هي في الغالب من مُهاجرة إشبيلية وغرناطة ومالقة والجزيرة الخضراء، وفيما يلي لائحةٌ بأَسمائِها:
الأندلسي - الشاط (وأشهر أعلامها هو: قاسم بن عبد الله بن محمد الشّاط المترجَم في "الإحاطة"([27])، وقد كان لأفراد هذه العائلة إسهام كبير في الجهاد وقد سجّلت كُتُب التاريخ صُوّرا مُشرقة من بُطولاتهم في هذا المضمار، وأشهر مجاهدي هذا البيت: قاسم الشّاط الأندلسي([28]). كما كان لبعضهم سهمٌ في التّأليف، نعرف أنّ لأحد أولاد الشّاط تأليف في "الإسطرلاب"، وللأستاذ عبد القادر الشّاط([29])ديوان شِعري سمّاه: "بُرادة اللجين".
ومنهم: العفاقي- الخليع- الشعيري- ابن عجيبة (نبغ منهم أحمد بن عجيبة (ت. 1224 ﻫ) مُؤلِّف "البحر المديد في تفسير القرآن المجيد"، و"شرح الحكم"، وغيرهما من التآليف المفيدة([30]). - حَجّاج- قنجاع- النّْوِينُو- البيّاري- الهرّاس- الموغة- شابو- بروحو- اغزيل (ومِنْ عُلماء هذا البيت الفقيه أحمد بن عبد الكريم اغزيل([31])) - البقّاش (نبغ في هذه الأسرة الفقيه المقرئ محمد بن حمان البقّاش (ت. 1945 م)، له من التآليف: كتاب في "قراءة الإمام البصري"، وكتاب في "الارتحال في القراءات"، وتقييد في "تاريخ قبيلة أنجرة").
ومنهم: الفتوح- الهيشو- العاقل- بُولْعَيش (ومن علمائهم الفقيه أحمد أبو العيش الشهير بالفقيه مصباح([32])). - بُوزِيد (المشهور منهم هو الفقيه أحمد بوزيد الذي نبغ في علم التوقيت وترك لنا تآليف عديدة في هذا الفن([33])).
ومنهم عائلات: قَرُّوق- الأشقر - الدّامون- العشيري- الراضي- السعيدي- عَبّود- الشيوة- الدّمغة- الحايك- البرّاق- عيّاد- اللغميش- فِيغُو- الهواس- البرّاج- الشرّاط- كحلون- الهرُّوس- الدّهدوه- عْزيبو- مارصو- المفضّل- سلامة- الأنصاري- الكحّال- زميزم- الطويل- الحداد- الدهري- الزّرْبُوح- الشّلاف- الزّيدي- اعْليلو- حلحول- حمامو- الخيّاط- الزّكاف،....
ولستُ أزعم أنني أنجزتُ لائحة شَامِلة بأسماء الأسر الأندلسية التي تقطن أنجرة، فذلك يتطلب جُهدا إضافيا. وإذا كان التّركيز في هذا البحث قد شمل الأُسر التي وفدت على المنطقة من إشبيلية ومملكة غرناطة، فإنه ينبغي أنْ أُشِير إلى أن بلاد أنجرة استقبلت في القرنين السّادس عشر والسابع عشر الميلاديين أفواجاً عديدة من الجاليات الموريسكية ما لبثت هي أيضا أن اندمجت في المجتمع الأنجري ذي الأصول الأندلسية([34]).
3-2. الأثر الأندلسي في الفلاحة والغِراسة بأنجرة
لستُ أرغب في هذه الدراسة أن أتكلّم على مُستوى الأنشطة المرتبطة بمعيشة واقتصاد النّاس في أنجرة بقدر مَا أُرِيدُ أن أتتبّع الأثر الأندلسي الباقي في تلك الأنشطة. ولعلّ النّص الذي يصلح لأن يكون مَدْخَلا إلى موضوعنا هو كلام ابن غالب الذي نقله المقري في "نفح الطيب"، قال: «ولما نَفَذَ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة، تفرقوا ببلاد المغرب الأقصى من بر العدوة مع بلاد افريقية، فأما أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه، وداخلوا أهلها وشاركوهم فيها، فاستنبطوا المياه، وغرسوا الأشجار، وأحدثوا الأرْحِية الطاحنة بالماء، وغير ذلك. وعلّموهم أشياء لم يكونوا يعْلمونها ولا رَأَوْهَا، فشرفت بلادهم وصلحت أمورهم وكثرت مستغلاتهم وعمّتهم الخيرات»([35]).
ومُلخّص هذا الكلام أن الأندلسيين انتقلوا بعاداتهم وتقاليدهم الفلاحية إلى مهاجرهم بالمغرب، وفيما يخصُّ الأثر الأندلسي في الفلاحة، فإن كُلُّ مَنْ قُدِّرَ له أن يقف على طرائق أهل أنجرة -وجبالة عموما- في عمل الفلاحة، سواء تعلّق الأمر بغراسة عدد من أصناف الفواكه والخضروات، وزراعة القمح والشعير والذرة، وفي طريقة توزيع مياه السقي وفي أعمال الحصاد والدّرس، أو تعلّق الأمر بالاصطلاحات الفلاحية المتداولة في ذلك، ثم رَجَعَ إلى كُتب الفلاحة الأندلسية -مثل كُتب ابن العوّام الإشبيلي، وكُتُب ابن بصّال- لَوَجَد تلك الطرائق والاصطلاحات مَسْرُودةً فيها، وأَلْفَاها تنطبق تمام التّطابق على فِلاحَة أهل تلك البلاد، ويُمكنني أن أقدِّم أمثلة عديدة على ذلك، وبما أن المجال لا يسمح بالتّطويل فإني سأكتفي بضرب بعض الأمثلة على المغروسات الأندلسية بقبيلة أنجرة.
ثبت لدينا بحُججٍ أنّ الأندلسيين لما جاؤوا إلى بلاد أنجرة كانوا يحملون معهم عدداً من نُقَل مغروسات الأندلس، بدليل أن بعض الفاكهة التي تخبرنا كتب التاريخ والأدب أنها لا تُوجد إلا بالبلاد الأندلسية نعثر عليها بأرض أنجرة، وأعني بعض أنواع التين. فمن أشجار التين الموجودة بأرض أنجرة، أذكر صنفين جلبهما الأندلسيون وغرسوهما ببلاد أنجرة: التِّين القُوطِي والتِّين الشّعري، وهُما من أصناف التِّين التي لم يكن ينبت إلا بالأندلس حسبما يذكره المقري أثناء وصفها، قال: «ولها (أي الأندلس) من أنواع الفواكه ما يعدم في غيرها أو يقلّ، كالتِّين القُوطِي والتِّين الشّعري بإشبيلية. قال ابن سعيد: وهذان صنفان لم تَرَ عيني ولم أَذُقْ لهما منذ خرجت من الأندلس ما يفضلهما»([36]).
وهذان الصنفان من التِّين موجودان بأرض أنجرة. ولنقف الآن بعض الوقت مع التِّين القُوطِي، فجميع أنواع التِّين تُثْمِر مَرّتين في السّنة في يونيو وفي أواخر غشت أو بداية سبتمبر، فأهل أنجرة اليوم - كما أسلافهم أهل الأندلس قديما - يقولون لما ينضج مُبكِّرا من فاكهة التِّين: البَاكُور([37]). والإثمار الثاني يُسَمِّيه فلاحُو المنطقة بـ(الخريف)، ربما لأنه ينضج في أوائل فصل الخريف. ومن المعروف لدى الفلاحين أنّ الإثمار الأول أَجْوَدُ من الثاني. ومما أودّ إضافته حول التِّين القُوطي -عن تجربة ومُصَاحَبة طويلة، إذْ كانت شجرة من هذا الصِّنف (التِّين القُوطي) موجودة في جنان وَالِدِي -رحمةُ الله عليه- بقرية لهشبة- أنَّه هو الوحيد من بين أنواع التِّين الذي لا يُثمر إلا مرّة واحدة ويكون ذلك في أواسط شهر غشت. والتِّين صنفان أسود وأبيض، والتِّين القُوطي من النّوع الأبيض وإنْ كان يغلب عليه اللّون الأخضر أو الفُستقي، وحَبّته صغيرة ولكنها في غاية الحلاوة.
أما التِّين الشَّعري، فهو موجود كذلك بأرض أنجرة، وبعض أهلها يُسمُّونَه الشعيري أو الشعايري([38]). وهذا التِّين موطنه الأصلي بإِقليم الشعير بضواحي إشبيلية، وفي تفضيل هذا الصنف من التِّين، يقول ابن سعيد القلعي نقلا عن "المسهب" للحجاري عند وصف تِين مَالَقَة: «وهو مُفَضَّلٌ على سائر تِينِ الأندلس، إلّا شعْريّ إشبيلية، فإن بعضهم يُفضِّله، ولاسِيما في دُخوله في الأدوية ومنفعته»([39]). وإذا كان "القوطي" و"الشعري" مما جلبه الإشبيليون إلى أرض أنجرة، فقد وَجَدْنَا بها أيضا بعض أثر لمغروسات أهل شرق الأندلس ممثّلةً في: البرقوق البلنسي.
ومن أثر الأندلسيين بأنجرة المرتبط بالفلاحة: الأرحاء (جمع رحى، وتجمع أيضا على أرْحِية) التي تطحن الزّرع، وكانت موجودة بأنجرة ولكنها تعطّلت منذ زمن ليس ببعيد بسبب ظهور المطاحن العصرية، وكانت هذه الأرحاء تُصنع من الخشب وتُبنى لها بيوت على الأودية، عرفنا واحدة منها في وادي الرّوز، وأخرى في وادي المرسى، ورُبّما وُجِدت في غيرها من القُرى الوادية بتعبير أبي القاسم الأنصاري. وثمة في أنجرة أرحاء نصبت على عُلُوٍّ حيث صبيب الماء ينهمر بقوة من بعض الجبال كما هو حال رحى عين العجائز، ورحى العناصر (أو العناسْر كما يلفظها أهل المنطقة).
3-3. الاحتفالات الأندلسية على أرض أنجرة
كان الأنجريون يحتفلون بالعديد من الأعياد الإسلامية ويُقيمون لها حقّها من الرِّعاية والاهتمام، أوّلهما العيدين (الأضحى والفطر)، ثُمّ الاحتفال بِذِكرى المولد النبوي الذي لا يَقِلُّ في مظاهره عن العيدين فرحًا وابتهاجا، كَتَبَ القاضي الحاج محمد السّراج عن عناية أهل أنجرة بالمولد النّبوي، فقال: «ولقد شاهدتُ طيلة مُقامي وقت الدِّرَاسَة بقبيلة أنجرة المتصلة بسبتة اعتناءً كبيرا بليلة ولادة النبي المعظّم حتى إن كثيرا من المداشر لهم أوقاف عليها، يُنفقون غِلاتها في الاحتفال بها بقدر من طلع عليه فجرها، ورأيت قصائد في مدحه r عندهم لم أَرَهَا في غيرها من القبائل، وهم كإخوانهم بسبتة حينما يدخل الشهر ينظفون المساجد والزوايا ويجيِّرونها ويفرشونها بأنواع الفرش ويجلبون إليها أغصان الرّند من الغابة لتنبعث منها الرائحة الطيبة التي جعلها الله سبحانه فيها، كما يستعملون النَّدّ وغيره من البخور»([40]).
غير أنَّ أهل أنجرة كانوا -ولا زالوا- يحتفلون بأعياد غير إسلامية، كانت معروفة في الأندلس، ورُبّما كانوا تَابِعِين لأهل الأندلس في ذلك، وكان أبو العباس العزفي قد نَصَحَ الناس (أهل سبتة خاصّة) بترك الاحتفال بها، وأَمَرَهُم بأن يَشْرَعُوا في الاحتفال بذكرى المولد النّبوي، وألّف كتاب "الدر المنظم في مولد النبي المعظم" ترغيباً لهم في ذلك، وقد كُلّلت جُهُوده بالنّجاح إذ منذ ذلك الحين والمغاربة يحتفلون بالمولد النبوي في كل عام، ولكن عادة الاحتفال بأعياد غير المسلمين ظلت قائمة في عدد من القبائل المجاورة لسبتة، منها أنجرة، وهذه الأعياد هي:
- يَنّيْر: وهي ليلة الميلاد أو النيروز، وكان أهل أنجرة يَسْتَعِدُّونَ لها ويُهَيِّئُونَ فيها أطعمة تختلف عن المعتاد، ويُحَضّر في هذا اليوم الاسفنج والرغايف، وتقدّم فيه الفواكه الجافّة كاللّوز والجلوز والزبيب والقسطل والرُّمّان والتّمر.
- العَنْصَرة: وهو من الأيام المشهورة ببلاد الأندلس، موسمٌ للنّصارى يُحتفل به في يوم 24 من يُونيو([41]) ذكرى مولد يحيى بن زكريا عليه السلام. وفيه يلبس الناس الجديد من الثِّياب، وتُشعل النيران والناس يقفزون فوقها، ويتبارون في رُكُوب الخيل. ولا تزال العنصرة تُقام بأنجرة في أوائل شهر يوليوز من كل عام، بل أصبح يُقام لها مهرجان بقصر المجاز تتعدّد فيه الأنشطة التي تبرز الخصائص الفنية والثقافية للمنطقة([42]).
3-4. الأثر الأندلسي في البيت الأنجري
البيت الجبلي بأنجرة يحتفظ بالكثير من ملامح البيت الغرناطي، ومَنْ سَبق له أن زار المنطقة الأندلسية القروية بإسبانيا فلاشكّ أنه لاحظ ذلك التّشابه مثلما لاحظه زُرَارَة البرتغالي في القرن 9 ﻫ/15 م([43]). ومما يُمَيِّزُ البيت الجبلي بأنجرة الجُدران المجيَّرة بالأبيض وجوانبها السُّفلى بالأزرق، والقَرْمِيد الأندلسي الأحمر الذي يُغَطِّي سقف البيت من الخارج، والذي لا يزال الإسبان إلى اليوم يُسَمُّونَه: القرميد العربي Teja Arabe. ومِنْ بين العناصر أو الوَحَدَات الْمُكَوِّنة للمنزل القروي في أنجرة ونَجِدُ لها مثيلا في بُيوت الأندلس القديمة:
- السّطَح: هو في البيت القروي الأنجري يقابل ما يُعرف اليوم في بُيوت المدينة باسم: المقْعَد، وهو ينقسم إلى قِسمين، المدخل، وبِهِ مجلس صغير، ثم يليه قسم آخر دَاخِلي كبير، وفي جانبٍ من هذا القسم الداخلي للسّطح يكون موضع مبيت صاحب الدّار مع أهله، وفيه مُتّسع لجلوس الأضياف، وقد وردت كلمة "السّطح" بهذا المعنى في كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم([44]).
- الدّْوِيرَة: للبيت الأنجري ما يُعرف بالدّْوِيرَة، وقد وردت في بعض النصوص الأندلسية([45]). وهي تقع داخل حُدود البيت إلا أنها مكشوفة وغير مسقّفة، وتشمل المساحة الأمامية التي تَلِي السّطح، وتكون محاطة، من جوانبَ ثلاث، بِسُورٍ ارتفاعه يصل إلى مُستوى كتف الإنسان في وضعية وقوف (1.50 متر). وقد تصل مساحة الدويرة إلى 50 متر مربع (5م × 10م)، وتتوسّطها شجرة تين أو كرم (الدّالية). وعادةً ما تكون الميضأة في زاوية من الدويرة. وفي الدْوِيرَة يظهر تَوَلُّع المرأة الأنجرية بأناقة دارها ومُبالغتها في تزيين بيتها لاسيما ما يبرز منه للمَارّة. وفي الدويرة تضع المرأة الوَصِيَّة على البيت جرّات الماء، ورُزم الحطب، وأهمّ ما يلفت النّاظر إلى دْوِيرَة البيت الأنجري أصص الأزهار ومشاتل الورود من أنواع السّوسن والياسمين المرددوش والقرنفل والحبق... التي تصطفّ مُنتصبةً شامخةً على طُول حائط الدويرة الموازي للطريق العام، ومن عاش لِبِضْعَة أيّام في القُرى الأنجرية فَمِنَ المؤَكّد أنه صَادَفَ في طُرقاتها تلك النّسمات العَطِرَة التي كانت تنبعث من جُدران البيوت لاسِيّمَا في العَشِيَّات وقتَ غُروب الشّمس. وللمرأة الأنجرية ولعٌ كبير باقتناء الأزهار والوُرُود، ولا رَيْبَ في أنّ هذا مِنْ أَثَرِ الأندلس الباقي في المنطقة، فالأندلسيون كانت لهم نفس العناية، بل كانوا يُعِدُّون شراء الأزهار مِنْ نَفَقَة البيت، فهذا عبد الكريم القيسي الأندلسي يُعَدِّدُ، في قصيدةٍ له، ما يلزم بيته من حَاجَات، فيذكرُ ما يتعلّق بنظافته وأناقته ويقول: [مجزوء الرمل]
ثُمّ صَابُونٍ لِغَسْلِ
ثُمّ أَزْهَارٍ لِشَمِّ([46])
- بيتُ المرمّة: مِنْ بين العناصر الْمُكَوِّنة للمنزل القروي في أنجرة: "بيتُ الْمَرَمَّة". ومن أمثال أهل أنجرة: "خْطْبْتِ الْمْرَا وَالمْرَمَّة"، وهذا المثل مِنْ كلام أهل الأندلس الجاري على لسان المغاربة في شمال بلادهم، وهو يُقال للرجل الذي ابتسم له الحظ بِخِطْبة امْرأة من مميزاتها أنها تُجِيد الحياكة. والْمَرَمَّة الواردة في المثل السابق: هي آلة الحياكة التقليدية بالمغرب، وهي مما جَلَبَهُ الأندلسيون إلى المنطقة، ولا زالت معروفة بهذا الإسم إلى اليوم، وتُستعمل في نسج المناديل والجلابيب، وهي الآلة الرئيسية للنّسْج في القُرى والبوادي المغربية والأندلسية، وكانت كذلك حتى في المدن إلى وقت قريب. وقد وَرَدَ ذكرُ هذه الآلة في الكتب القديمة، أشار إليها ابن بطوطة في مُدوّنة رحلته إذْ قال إِنَّهُ شاهد في الطريق بين وَلاَّتَة ومَالِي شجرةً في داخلها حَائِكٌ "قد نَصَبَ مَرَمّته وهو يَنْسُج". وقد أثار هذا المشهد استغراب الرّحّالة الطنجي، أما ابن جُزي الغرناطي فَزَادَ على الطّنجي الخبرَ التّالي: «وببلاد الأندلس شجرتان من شجر القسطل في جوف كل واحدة منهما حائكٌ ينسج الثياب، إحداهما بوادي آش والأخرى بِبُشَارّة غرناطة»([47]).
كما وردت "المرمّة" في شِعْرٍ لابن الخطيب الغرناطي، قال:
وَاغْنَ بِقُطْنِ الثَّلْجِ عَنْ مَتْجَرٍ
يُغْنِيكَ عَنْ جَمْعٍ وعَنْ حَلْجِ
وَاغْزِلْهُ بالرِّيح وهَيِّءْ لَهُ
مَرَمَّةَ المَصْقُولِ والكَنْجِ([48])
- بيتُ الكَانون: وهو بيت يُطبخ فيه الخبز، ويُسَمّى أيضا "بيتُ العافية" (أي النار)، ويشمل البيت على مَوْقِدٍ في شكل حُفرة، يُدار بثلاثة أحْجار لا ترتفع عن مُستوى الأرض إلا قليلا، وعليها تُوضَعُ الآنية. أما الفُرْن المبني بالطين فموضعه خارج بيت الكانون .
- الأروى والنّوالة: الأروى هو إصطبل البقر، ويكون مبنيا بالحجر. أمّا "النّوالة" فهي المحل الذي تأوي إليه الماعز، ويتألف من جُدوع الأشجار، وقد وردت "النّوالة" عند ابن ليون التجيبي الأندلسي في أُرْجُوزَتِه الفِلاحية.
3-5. الأثر الأندلسي بأنجرة في المجال العلمي
الأثر الأندلسي في التعليم ببادية أنجرة ملحوظٌ اليوم، فلا زال الفقهاء مُتَّبِعِين النظام الأندلسي العتيق في التدريس وذلك من خلال المتون التي تُقرأ وتُدَرَّس بمسايد المداشر وجوامعها، وفي الخط الأندلسي الذي يُجِيد الكتابة به عددٌ من الفقهاء والطلبة. وبما أننا في هذه الدراسة نُؤَرِّخ للهجرة الأندلسية إلى قبيلة أنجرة فإنه يتوجّب علينا أن نُبرز المعالم والشّواهد المبكِّرة للحضور الأندلسي بالقبيلة في المجال العلمي والأدبي. فَمِنَ المعلوم أن منطقة أنجرة أنجبت عدداً من العُلماء في العصر الوسيط إلا أن ظُهور هؤلاء في كُتب التّراجم والرّحلات لم يكن لِيَتِمّ لو لم يدخلوا إحدى المدن المجاورة كطنجة وسبتة، فَدَوْرُ المدينة في إعْلاء شأن العلم وحَامِلِيه ظلّ دائما دَوْرًا فعّالا بالمغرب والأندلس، أما علاقة عُلماء أنجرة بالأندلس فقد عثرنا في بعض الكُتب على معلومات قليلة يُستفاد منها أن بلد أنجرة كان محطّ رِحَال عددٍ من عُلماء الأندلس الذين كانوا يَجُوزُونَ البحر إلى المغرب في عهد المرابطين والموحِّدِين فينزلون بمرسى قصر المجاز، وهناك يظلون أياما وشهوراً لبَثِّ العلم، وكذلك عَرَفَ القصر نشاطا عِلْمِيًّا مُتميِّزًا في العصر المريني شارك فيه عددٌ من عُلماء الأندلس([49]). وقد ترجم أبو بكر الحضرمي في "بُلغة الأمنية" للفقيه محمد الأنجري (ت. 803 ﻫ) فذكر أنه «اجتاز إلى الأندلس في أيام السُّلطان الشهير أبي عبد الله محمد بن يوسف ابن الأحمر، فدخل غرناطة ولقي مشيختها وقرأ عليهم وأجازوه كالأستاذ المفتي الأعرف أبي سعيد بن لُبّ والشيخ المحدِّث محمد الحفّار والقاضي أبي عبد الله بن بكر وسواهم، وكتب له في كل ذلك خطّ يده، ثم عاد إلى سبتة»([50]). ويبدو أن سبتة وقصر المجاز كانا منطلق الأنجريين إلى الأندلس، فلمّا سَقَطَا بيد البُرتغاليين انقطع الاتِّصال.
ومما ينبغي أنْ يُعْلَم أنّ الظُّرُوف التي أتى فيها هؤلاء الأندلسيون إلى أنجرة لم تكن تُساعد على الاهتبال بالعلوم، لقد كانوا يُعَانُون مِنْ مِحْنَة الهجرة والخروج من بلدهم الأصلي، ومِنْ مشكلات الاستقرار في البلد الجديد، كما أنّ الوقائع السياسية التي عصفت بالمنطقة والمتمثلة في احتلال البرتغال لمدن شمال المغرب المطلة على مضيق جبل طارق، وإغارة جُيوشها على القُرى المجاورة لتلك المدن، مع تردّد الكوارث الطبيعية على المنطقة... كُلُّ ذلك كان له أثرٌ سَيِّء على مُستوى عيش السُّكَان وحياتهم، وزَادَت تلك الوقائع مِنْ تَأَزُّمِ الوَضْعِ إلى حدّ أنها جَعَلَت النّاس في المنطقة لا تُفَكِّر إلا في شيئين: الطّعام والأَمْن أيْ توفير الغذاء والدِّفَاع عن القرية والعِيال، وبالتّالي لم يُرفع للعِلْم رَايَة خفّاقة بأنجرة زمن الاحتلال البرتغالي لطنجة وسبتة والقصر الصغير، ولم نقف على أثر عِلْمي أو أَدَبِي للأندلسيين الذين استوطنوا قبيلة أنجرة إلا في القُرون المتأخرة أي بعد جلاء البرتغاليين عن طنجة والقصر الصغير.
3-6. الأثر الأندلسي في لهجة أهل أنجرة
في اللهجة الجارية حاليا على لسان أهل أنجرة أثرٌ كبير لكلام أهل الأندلس، وإنْ كان قد أصابها تغيير بسبب التأثيرات اللغوية الخارجية التي دخلت عليها وأفقدتها بعض أصالتها، وهي لهجة نَلْقَاهَا في نُصوص الأمثال والأزجال الأندلسية القديمة، ولعلّ دارسُو هذه النُّصُوص قد لاحظوا الأثر والتأثير الأندلسي المسموع في لهجة جبالة والهبط، ومما أَوَدُّ ذكره هُنا أن الدكتور محمد بنشريفة حين دَرَسَ "ملعبة" الكفيف الزرهوني أَلْفَاهَا تستعمل لُغة الزجل الأندلسي، وانتزع من النص المذكور عددًا من الألفاظ التي نلقاها كذلك في اللّهجة الأندلسية، وقد خلص الأستاذ محمد بن شريفة إلى «أن هذا التماثل بين "مَلْعَبَة" الكفيف الزّرهوني وبين النصوص الأندلسية من حيث الاستعمال يمكن تفسيره بما يلي: (1) تَأَثُّر الزّجّال المغربي القديم بمحفوظه من الأزجال الأندلسية. (2) اشتراك لهجتيْ الأندلس والمغرب في عدد كبير من الألفاظ التي تعتبر ألفاظا مغربية بالمعنى الواسع. (3) تأثّر لهجة منطقة جبالة التي ينتمي إليها الكفيف باللهجة الأندلسية بحكم القرب والجوار، ولأن أهل جبالة أو غمارة كانوا يقومون دائما بفرض الجهاد في الأندلس ويتطوعون بدخولها من أجل ذلك ثم يعودون إلى ديارهم، ثم إن عددا كبيرا من الأندلسيين استقروا بمنطقة جبالة في أفواج متعاقبة»([51]).
ومُلَخَّصُ هذا الكلام أنّ جْبالة الأصليين تأثَّروا بلهجة أهل الأندلس بسبب القُرب والمجاوَرة، وأيضا لأن جالية أندلسية كبيرة استوطنت بلادهم بعد الجلاء، وهذا صحيح وإنْ كان يُبقينا دائما في دائرة التأثير والتّأثّر. فالتّعريب الذي قامت بها الجالية الأندلسية لم يكن شاملا في بعض القبائل المغربية ولذلك ظلت مُزْدَوَجَة اللّهجة إلى اليوم، في حين نجد أنّ بعض أهل
القبائل الجبلية الشّمالية التي استوطنها الأندلسيون يعتبرون اللهجة الأندلسية هي لُغتهم الأم لم يَعْرِفُوا غيرها مثل قبيلة أنجرة التي لا نسمع فيها إلا اللهجة العربية الأندلسية ولا يُخالطها كلام آخر. وقد لا يتّسع هذا الحيِّز الآن لإنجاز مُعْجم لكل الألفاظ الأندلسية المتداولة ببلاد جبالة والهبط، ووَضْعِ تفسيرٍ لِمَعَانِيهَا، ولذلك سنكتفي بتقديم بعض الأمثلة من الألفاظ الأندلسية الجارية على ألسنة أهل قبيلة أنجرة: النوادر، النّْيَق([52])، النُّقلة، الطبيرة، اللِّنجاص، المجاز، المرج، الكُدية، الجُرْف، الخندق، الدامون، الشرفات، الجنان، الفدّان، الولجة([53])، الحوز، الوْطَا، الغدير([54])، الدمالج، الدْقُم، الكرانة، البراطل، البلِّق([55])، الملاسة([56])، القُب، البَرْوَق، العزف، البلاط، الزّريعة، النِّيش، المسيد، الدّشار، البرّاني (وتعني الغريب)، العُدوة (وتعني الجانب الآخر من الوادي، وأهل أنجرة يُطلقون على اسبانيا اسم العُدوة إلى اليوم)، ...الخ([57]).
وكُلُّ من قُدِّر له أن يخالط أهل هذه القبيلة ويتكلّم معهم إلا وقد لاحظ أن الطّابع الأندلسي بارز في كلامهم، ولذلك لما شَرَعَ الباحث الإسباني أَنْخِلِيسْ بِسِنْطِي في دِرَاسَة لهجة أهل أنجرة اكتشف ذلك الأثر الأندلسي الكبير الباقي في الكلام الجاري على ألسنة الأنجريين، فقال عن كتابه: «إنّ الهدف من هذا العمل يتركّز، في مُعظمه، في إظهار الأثر اللغوي للأندلس في بعض لهجات شمال المغرب التي لم تُدرس بما فيه الكفاية حتى الآن، ويتجلّى أسَاسًا في الدِّراسة العِلمية التي تناولناها عن بعض اللهجات الأكثر قدامة بالبلد المجاور (المغرب)، مثل لهجة أنجرة»([58]).
ومِنْ خصائص اللّهجة الجبلية: الإمالة، وهي انقلاب الألف "يَاء" في نطقهم لعدد من الألفاظ، وقد بقي أثر الإمالة في كلام أحفاد الأندلسيين الذين استوطنوا شمال المغرب، فعندما زار الحسن بن مسعود اليوسي بلاد جبالة لاحظ في كلامهم هذه الإمالة، فقال: «ومن جُملة ما اتفق لي في هذه السّفْرَة إلى جِبَالِ الزَّبِيب، وسفرات أخرى لزيارة الشيخ عبد السلام ابن مشيش -رضي الله عنه-، أني سمعت لغة لأهل تلك الجبال يكسرون آخر الموقوف عليه، فتتبعتها استقراء فوجدتها لها ضابط. وقد رأيت غيرهم من أهل الآفاق يسمعون عنهم ذلك فيحكونه على غير وجه، وينسبون إليهم ما لا يقولون جهلا منهم بضوابطها، فإنهم لا يكسرون إلا الفتحة بعدها ألف... فإن العوام من غيرهم يقولون في الموقف على هذه: البقرا والشجرا، بألف، وهؤلاء يَكْسِرُون فيقولون: البقْرِي والشّجْرِي، وتنقلب الألف ياء»([59]). ومن خَصَائص لهجة أنجرة أيضا نُطقهم القاف كَافاً([60]).
4 - الأنْدَلُسِيُّونَ فِي بِلاَدِ جْبَالَة
لعلّ المجال المتاح الآن يضيق عن تخصيص دراسة تشمل الأثر الأندلسي في جميع مجالات النشاط الإنساني في جميع قبائل جْبالة، ولذلك سنكتفي - في هذه الدراسة - بالكلام على أُصُول سُكّان تلك البلاد وعلاقتهم بالأندلس، والقبائل التي تشملها الدِّرَاسَة هي: الفحص (فحص طنجة)، والغربية، بني مصوّر، جبل حبيب، وَادْرَاس، بني يدر، بني عروس، بني يسف (أو يوسف)، سماتة (أو سُوماتة)، الساحل، ....وغيرها. وقبل أن ننتقل إلى الكلام على الأصول الأندلسية لسكان هذه القبائل، نُشير إلى أن الأسر الأندلسية التي تحمل لقب "الأندلسي" موجودة في جُلِّ القبائل الجبلية والهبطية ولاسيما في بني مصور، وجبل حبيب، وسُوماتة، وبني يسف([61]).
- قبيلة الفحص: ونعني فحص طنجة، وهو أشهر فُحوص شمال المغرب، ويشتمل على المنطقة السّهلية التي تمتد جنوبيّ المدينة حتى وادي تهدّارت تتخللها بعض التلال والرّوابي، ومِنْ قُرَاهُ الأندلسية: الديموس، وشرف العقاب، وبْرِيْش... وقد استوطنه الأندلسيون قديما واتخذوا من أراضيه عَرَاصِي ومَزَارِعَ لهم، وقد ازداد عددهم بعد احتلال طنجة من قِبل البُرتغاليين عام 876 ﻫ/ 1471 م وخُروج أهلها إلى الفحص وأنجرة. ولم يُتَحْ لي أن أقوم بجمع أسماء العائلات الفحصية التي تتحدّر من الأندلس، ولذلك لا أُثْبِتُ هُنا إلا ما تلقّيتُه بشكل مُؤَكّد من بعض الأُسَر وما ظهر لي من خلال دلالة بعض الألقاب التي تحملها عائلات مثل: الفَحْصِي، والديموسي([62])، وابن سلاّم، والخمّال، والبكدوري، والجبيلي، والمنيسار (المنيصار)،... وينبغي أن أُذَكِّر أنّ كَلِمَة "الفحْص" من الألفاظ الأندلسية المتداولة بالمنطقة، ولكن لا يُراد بها المعنى اللُّغوي الفصيح للكلمة، ولذلك كان بعض المشارقة يستشكل عليهم مَعْنَاهَا الأندلسي، يقول ياقوت الحموي: «بالمغرب من أَرْضِ أندلس مواضع عِدّة تُسَمّى الفَحْص، وسألت بعض أهل الأندلس: ما تَعْنُونَ به؟ فقال: كُلُّ مَوْضِعٍ يُسْكَنُ سهلا كَانَ أو جَبَلاً بشرط أن يُزرع نُسَمِّيه فَحْصاً، ثم صَارَ عَلَماً لعِدّة مواضع»([63]).
- قبيلة جبل حبيب: لهذه القبيلة علاقة قديمة بالأندلس، وحبيب الذي لا يُذكر جَبَلُ القبيلة إلا مُضَافًا إليه هو: حبيب بن أبي عبيدة بن عُقبة بن نافع الفهري، حفيد فاتح المغرب، وترجم له الحُمَيْدِي، فقال: «حبيب بن أبي عبيدة، واسْمُ أبي عبيدة مُرّة بن عُقبة بن نافع الفهري، من وجوه أصحاب موسى بن نصير الذين دخلوا معه الأندلس، وبقي بعده فيها مع وجوه القبائل إلى أن خرج منها مع من خرج إلى سُليمان بن عبد الملك. ثم رجع حبيب بن أبي عبيدة بعد ذلك إلى نواحي إفريقية، وولى العساكر في قتال الخوارج من البربر، ثم قُتل في تلك الحروب سنة ثلاث وعشرين ومائة»([64]). وقد وَصَفَ الحسن ابن الوزّان هذا الجبل، فقال: «جبل حبيب: في هذا الجبل ستة قُصور أو سبعة، يسكنها أُنَاس كِرَام مُحْترمُون. وذلك أَنَّهُ بعد سُقوط طنجة في يد البرتغاليين جاء عدد كبير من أهلها إلى هذا الجبل واستقروا فيه، لأنه على مسافة خمسة وعشرين ميْلا من مدينتهم»([65]). وقَبْلَ أن تأوي إلى هذا الجبل جالية طنجة التي أُرغمت على الخروج من بلدتها سنة 1471 م، وكانت تضمّ عدداً من الأسر الأندلسية، كانت جالية غرناطية كبيرة قد لجأت إليه، وإلى قبيلة بني مصوّر، وبني يدر، ووَادْرَاس. ولم يَسمح لي الوقت حتى الآن أن أُنجز لائحة بأسماء الأسر الأندلسية التي تستوطن جبل حبيب، غير أنّ المشهور منهم هم أولاد الأندلسي، وأولاد الرُّوسِي، وأولاد المتني، وأولاد دبُّون،... وغيرهم.
- قبيلة وادي راس: يذكر الحسن ابن الوزّان أن أهل وَادْرَاس كان لهم إسْهام متميِّز في الجهاد بالأندلس، وسمى أحد أبطال هذه القبيلة الذي حارب النصارى في وقعة العقاب حتى أكرمه الله بالشّهادة، قال: «وادراس: جبل شاهق بين سبتة وتطاوين، يسكنه رجال ذَوُو شجاعة فائقة بَرْهَنُوا عنها بجلاء في الحروب التي دارت بين ملوك غرناطة ومُلُوك إسبانيا، فكان هؤلاء الجبليون يذهبون متطوعين إلى غرناطة ويقومون بما لا يقوم به كل جنود أولئك الملوك مجتمعين. وإلى هذا الجبل يعود أصل المدعو هلولي([66]) الذي شارك في معارك ضارية ضد الإسبانيين، ويتداول الناس في بلاد افريقية والأندلس قِصَصًا شعبية نثرية وشِعْرِيّة تُشِيدُ بانتصارات هذا البطل، مثلما يوجد في ايطاليا من قصص بطولات رُولاند. وقد قتل هلولي في حرب اسبانيا لما انهزم يوسف الناصر [الموحدي] قرب قصر في قطلونيا يُسَمِّيه المسلمون قصر العقاب، حيث قتل عشرة آلاف محارب من المسلمين، ولم ينج إلا الملك في قلة من أتباعه، وذلك عام 609 للهجرة، الموافق لعام 1160 للميلاد. وبعد هذه الهزيمة للمُسلمين أخذ النّصارى يحققون انتصارات في اسبانيا، إلى أن استردوا كل المدن التي كانت بيد المسلمين. وقد مرّت على هذه الهزيمة 285 سنة هجرية قبل أن تسقط غرناطة بيد ملك اسبانيا»([67]). ومما يُسجَّل في علاقة أهل وادراس بالأندلس أنه كانت لهم عِنَايَة كبيرة بِنَسْخِ كُتب الأندلسيين، ولا يزال لبعض مُنتسخاتهم الأندلسية بَقِيّة بخزانة القرويين بفاس([68]). وقد لاذت بهذه القبيلة العديد من الأسر الأندلسية من أهل الجزيرة الخضراء وأَنْدَرَاش وأهل بعض القُرى الغرناطية والمالقية، ولم أتفرّغ لجمع أسمائهم حتى الآن بيد أنّ ألقاب بعض العائلات تدلُّ على تحدّرهم من أصول أندلسية مثل: سلمون، وابن تاويت، والرّنبوق، واسْطيطو أو اسْتيتو، الزربوح، ومجاهد،...
- قبيلة بني مصوّر: استوطن هذه القبيلة عددٌ من أهل الأندلس الذين نزحوا إلى المغرب. ومِنْ بني مصوّر أيضا خرجت إحدى أبرز العائلات المُجَاهِدَة التي قاومت الاستعمار البرتغالي والإسباني والإنجليزي لمدن الشمال في القرن العاشر والحادي عشر الهجريين، وأعني عائلة بوليف (أو أبو الليف كما كان يُرسم اللّقب قديما)، وهي عائلة أندلسية([69])، نَزَحَت من غرناطة وكوّنت تجمعا في قبيلة بني مصوّر وجبل حبيب وعين قصاب، وأهم تجمّع لهم يوجد بقرية بُولِيفْش بقبيلة بني مصوّر، ومن أبرز مُجَاهِدِي هذه الأسرة: المجاهد المقدم محمد بن الحسن بُوالليف الذي استشهد عام 1002 ﻫ([70]). وعدا أولاد بوليف، توجد بقبيلة بني مصوّر العديد من الأُسَر ذات الأصل الأندلسي، منهم: أولاد الأندلسي أو الأندلوسي، أولاد ابن عطية (أولاد بوعطية)، أولاد بكُّور، أولاد أجانا، أولاد بُوحْديد... وغيرهم، وجميعهم من مهاجرة غرناطة.
وينبغي أن نُنَبِّه إلى أن كلمة "أولاد" مصطلح يُفيد البيت أو الأسرة، وصار معناها في كلام العامة مرادفا لكلمة "بنو"، وقد بُدئ في استعمالها في العصر الغرناطي الأخير، استعملها مُؤَلِّفُ "نبذة العصر" والقنطري في "تكميل أزهار الرياض"، وغيرهما.
- قبيلة بني يدر: وهي قبيلة مُجَاورة لمدينة تطوان، وقد أَوَى إليها عدد من الأندلسيين، أو السبتيين ذوي الأصل الأندلسي. وأشهر أُسرة أندلسية قطنت قبيلة بني يدر هم أولاد النَّقْسيس([71])، وأهم تجمع لهم يوجد بقرية النقاقسة. وقد تزعّموا الجهاد ضِدَّ الإسبان المحتلين لمدينة سبتة، وحكموا تطوان وأحوازها رَدْحًا مِنَ الزمن. وفي القبيلة اليدرية بيوتات عديدة للأندلسيين منهم: النقاقسة المذكورون، وأولاد الرُّنْدِي، وأولاد شقّور أو شقّارة،... وغيرهم كثير.
- قبيلة بني كرفط: استوطنها الأندلسيون الذين نزحوا من غرناطة، وأشهرهم أسرة غيلان. ومن هذه العائلة خرج الرئيس الخضر غيلان الذي حارب البرتغاليين والإنكليز المحتلين لطنجة عُقُودا من السِّنِين([72]). وهُمْ شُرفاء ولهم زاوية([73])، ومواطنهم في قبيلة بني كرفط هي قُرى: الصخرة، والخطوط، ودار القرمود،... وغيرها. ولأسرة غيلان بُيوتات عديدة في طنجة وتطوان وأزيلا.
- قبيلة بني عروس: أَوَى إليها العديد من أبناء الجالية الأندلسية، كما عَرَفَتْ القبيلة مَوْجَة من الاستيطان الموريسكي بعد احتلال مدينة العرائش مِنْ قِبَل الإسبان عام 1610 م، فقد اضطّر أهلها - وكانوا في غالبيتهم من الموريسكيين - إلى الخُروج إلى القبائل المجاورة كبني عروس الذين يُنسب إليهم تعمير المدينة في القديم إذْ كانت تُعرف بعرائش بني عروس، ومما يمكن أن نعتبرهُ مِنْ أثر الأندلس الباقي في بني عروس تَمَيُّز أهلها بفصاحة ألسنتهم العربية، وحفظهم لموازين مُوسيقى الآلة الأندلسية([74]).
- قبيلة سماتة (سوماتة): علاقتها بالأندلس قديمة، انتهت إلى الصفاء بعد عُقُود من الجفاء. ومن حُصون سُماتة التي لعبت دورا في التاريخ المغربي الأندلسي "قلعة حجر النسر" التي تمكّن الأندلسيون - بعد حروب طويلة على الحسن ﮔﻨﻮن - أن يَضُمُّوهَا إلى ولايتهم في القرن الرابع الهجري([75]). وقد أعقب ذلك هجرة عدد كبير من السُّوماتيين إلى الأندلس، وفي كُتب التّراجم الأندلسية ذِكْرٌ لمن نبغ منهم في ضرب مِنْ ضُروب المعرفة.
- قبيلة بني يسّف (بني يوسف): وهي من القبائل التي نزلها الأندلسيون المهجّرين، ويمكن أن نلمس أثر ذلك في أسماء مداشرهم، ففي قبيلة بني يسف نجد قرى: الحمّة (أو حمّة الشرفاء)، الجبيلة، الريحانة، القصبة، الجزيرة، العنصر، فدان الجبل،... أمّا فيما يتعلّق بسُكّان هذه القبيلة، فإنّ نسبة منهم جاءت من الأندلس، ومما يُقَدّم كمثال على ذلك: «البُوطِيون، الذين هَاجَروا من الأندلس أيام المرينيين، وقصدوا مُرّاكش ثم أتَوْا إلى حمّة الشرفاء ببني يوسف، ومنها انتقلوا إلى مدشر الجبيلة»، حسبما هو مُثْبت في شجرة النّسب البوطي([76]).
- قبيلة الغربية : استقبلت قبيلة الغربية أفواجا من مهاجرة الأندلس. ويذكر المؤرخ ابن عزوز عائلة "الغربي" التي نزحت من الأندلس سنة 1502 م، واستقرت بشمال المغرب. إلا أن هذه العائلة قد تكون منسوبة إلى منطقة الغرب بالأندلس التابعة حاليا لدولة البرتغال([77]).
- قبيلة الساحل: تقع قبيلة الساحل بين أصيلة والعرائش، وقد سكنتها أسرٌ من الجاليات الأندلسية التي وفدت على المنطقة الشمالية للمغرب، ثم انضمّ إلى ساكنتها عددٌ من أندلسيي أصيلة لما سقطت بيد البرتغاليين عام 1471 م، كما عرفت المنطقة مَوْجَة من الاستيطان الموريسكي لما باع المامون مدينة العرائش للإسبان عام 1610 م، فقد اضطر أهلها -وكانوا في غالبيتهم من الموريسكيين- إلى الخروج إلى قبيلة السّاحل وقبائل بني عروس وبني كرفط، ولم يمكث في المدينة إلا فئة قليلة منهم، وتُسجِّل الوثائق الإسبانية أنه «كان بالعرائش عند احتلالها 150 من الموريسكوس المطرودين من اسبانيا، يهتم مُعظمهم بالزِّراعة في الحقول والبساتين وبأعمال البناء فكانوا يأتون بأعمال باهرة في الزراعة والبناء، إلا أنّ أكثرهم لم يكنْ محلّ ثقة الإسبان، فضايقوهم إلى أن لم يبق منهم إلا نحو 30 برهنوا على اتقانهم لمهنة التّرجمة»([78]). وعموما، فقد كانت هذه البلاد مهوى أفئدة عدد من الأسر الأندلسية، برز دور أفرادها في الجهاد والعلم والتجارة، وقد عرفنا منها عائلات: الروّاس، والعشّاب، والنقّاش، والعطّار، والتويجر،... وغيرهم كثير.
5 - الأندلسيون في بلاد الهبط
ليس هناك تحديد مضبوط لهذه المنطقة غير أنّ مارمول كربخال قد يكون هو أوّل مَنْ فرّق بين جْبالة والهبط عندما جعل قبيلة بني كرفط نهاية بلاد جْبالة([79]). بلاد الهبط يُعرِّفها ابن الوزّان بما يلي: «ناحية الهبط، تبتدئ هذه الناحية جنوبا عند نهر ورغة لتنتهي شمالا على المحيط، وتُتَاخِم غربا مستنقعات أزغار، وشرقا المشرفة على أعمدة هرقل. ويبلغ عرضها نحو ثمانين ميلا، وطولها نحو مائة ميل. هذه الناحية عجيبة حقا بسبب خصوبتها ووفرة انتاجها، معظمها سهل تخترقه مجاري مياه عديدة. وكانت في قديم الزمان أكثر نبلا وشهرة منها في أيامنا هذه، ففيها مُدُن أزلية، أسس بعضها الرومان، وبعضها القوط». ثم أتى ابن الوزّان بنُبذة عن تاريخ المنطقة، ومن جُمْلة مَا ذكر أن «الحاجب المنصور بن أبي عامر الأندلسي استولى على هذه الناحية في القرن الرابع الهجري»([80]). وتظل حدود الهبط التي يُقدِّمها ابن الوزّان هنا بحاجة إلى تدقيق ومقابلة بأسماء المواقع الحديثة، وبحسب المستعرب ميشو بللر فإن بلاد الهبط التي حددّها ابن الوزّان كانت تشمل سُهول الغرب وقبيلة الخلوط وجزءا من بلاد جبالة([81]). ويبدُو أنّ الجزء المقصود مِنْ بلاد جبالة والمحسوب على الهبط هي قبائل: سُماتة وبني كرفط وبني يسف([82]). وإذا أردنا أن نُمَيِّزَ بلاد الهبط باسم جديد قُلنا إنها "جبالة السُّفلى"، وقد نكون تكلّمنا على بعض قبائلها في الفصل السابق، وبَقِيَ علينا أن نُعَرِّفَ بالقبائل الأخرى، وهي: آل سريف، رُهونة، صرصر، مصمو