السلام عليكم ورحمة الله
عنوان الخطبة : التعلق بغير الله
أيها المسلمون : يحتاج المسلم في مسيرة حياته لما فيها من عقبات وابتلاءات وشدائد ومتطلبات إلى قوة يتعلق بها ويسعد بقربها
ويستمد منها العون والتأييد، وقد فطرت النفس الإنسانية على التعلق بالله والاستعانة به في كل الأحوال والظروف؛ لأنه
هو الخالق -سبحانه وتعالى-، وهو الرب وهو الملك وهو الرازق والمحيي والمميت ، وهو الذي بيده كل شيء ولا يعجزه شيء
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)
وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
وظل الإنسان على هذه الفطرة يعبد الله ويرجوه ويطلب منه ويستعين به، حتى إذا ضعف إيمانه وقل يقينه بسبب كثرة ذنوبه ومعاصيه
واتباعه للشيطان وشبهاته واغتراره بالدنيا وشهواتها وتعلقه بالماديات من حوله وبالأشخاص والذوات، واعتقاده بقدرتهم
على النفع والضر، حتى أشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار -رضي الله عنه-
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول اللَّـه تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين،
وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا "
والإنسان عند الضرورة ووقت الشدة تهديه فطرته إلى أن يعود إلى الله معترفًا بربوبيته، موقنًا بقوته وقدرته،
فيستجيب الله له ويعطيه الفرصة تلو الأخرى للاستقامة والتوبة، حتى إذا أقام عليه الحجة أخذه أخذ عزيز مقتدر، ووكله إلى نفسه،
فتزيد حسرته وتسوء أحواله قال تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)
وكلما زاد الإيمان في قلب المسلم وحافظ عليه وقام بما فرض الله عليه من الطاعات والعبادات؛ زاد يقينه واطمأنت نفسه
وتعلق بخالقه سبحانه واستشعر عظمته وقوته ورحمته، عند ذلك تهون كل الصعاب.
أيها المسلمون: اليوم كثير من الأفراد والمجتمعات والدول والجماعات والأحزاب يعلقون آمالهم على غيرهم من البشر،
طلباً للرزق ودفعاً للضر وجلباً للنصر ، وتلبية للرغبات، ويبذلون من أجل طلب رضاهم وموافقتهم واتباع هواهم الكثير من الأعمال،
حتى ولو كانت على حساب الدين والقيم والأخلاق والأوطان، ومع ذلك لم يجدوا شيئاً وإن ظهرت بعض الدلائل على تحقيق المطلوب
فإنما هو من باب استدراج المولى -سبحانه وتعالى- مع ظلمة تصيب القلوب وضنك في العيش وفساد في الأحوال؛
قال -صلى الله عليه وسلم-: "من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله ،
سخط الله عليه وأسخط عليه الناس". رواه ابن حبان في صحيحه. وصححه الألباني في صحيح الجامع 6010
وقف الشاعر ابن هانئ الأندلسي أمام المعز الفاطمي يمدحه ويطلب رضاه فقال
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ *** فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
هذا الذي ترجى النجاة بحبِّهِ *** وبـه يحطُّ الإصـرُ والأوزار
لقد جعله بوصفه هذا إلهًا من دون الله، فهل نفعه هذا؟! كلا، فقد سخط عليه المعز بعد زمن وحبسه في السجن،
وابتلي بمرض فكان يعوي كالكلب ويردد أبياتًا من الشعر يندب حاله يقول فيها
أبعين مفتقرٍ إليك نظرتني *** فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لست الملوم أنا الملوم لأنني *** علقت آمالي بغير الخالق
قال تعالى: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج: 18]، قال ابن القيم:
"من تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله -عز وجل- بتعلقه بغيره،
والتفاته إلى سواه. فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل؛ قال الله تعالى:
(وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً) [مريم:82،81]،
وقال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ) [يس:75،74].
فأعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله...". طريق الهجرتين ص70
أيها المسلمون : إذا كانت مقادير كل شيء بيده سبحانه، ومصير العباد إليه، وآجالهم وأرزاقهم عنده، بل سعادتهم وشقاؤهم في الدنيا والآخرة
لا يملكها أحد سواه؛ وجب أن تتعلق القلوب به وحده، وأن لا تذل إلا له، ولا تعتز إلا به، ولا تتوكل إلا عليه، ولا تركن إلا إليه:
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ) [التوبة:51]،
فالنفع والضر بيده سبحانه، ولا يملكهما غيره، ولا يقعان إلا بقدره: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً)
وانظروا إلى التاريخ والأحداث واقرؤوا القرآن، كيف نصر الله أولياءه ، وحفظ عباده وأسبغ عليهم نعمه عندما تعلقت قلوبهم به
رغم ضعفهم وقلة عددهم وتعرضهم للبلاء، وكيف هزم عدوهم وخذل الجبابرة وقصم الظلمة وأذل المتكبرين، فما نفعتهم أموالهم ولا
جيوشهم ولا حصونهم؛ قال تعالى:(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت:15]،
ومهما علا الباطل وتجبر وتعلق الناس به وانبهروا بقوته فإنه إلى زوال؛ قال تعالى: (إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص:8]،
فثقوا بربكم وتوكلوا عليه، وعلقوا آمالكم به، ولا تذلوا نفوسكم لغيره، ولا تركنوا إلى مخلوق مثلكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فما بالكم لغيره؛
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
عباد الله: عند الشدائد والمحن ينبهر الناس بالأمور المادية، وتتعلق قلوبهم بها، ويعتقدون أن تحقيق الآمال مرتبط بها، وتغيير الأحوال متوقف عليها،
ويوم حنين خير شاهد، نظر المسلمون إلى عددهم وعدتهم فأيقنوا بالنصر وتعلقوا بهذا، ونسوا أن النصر من عند الله يأذن به متى شاء،
فكانت الحادثة درسًا للأمة المسلمة إلى قيام الساعة؛ قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ... ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)
وفي عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- اغتر اليهود بحصونهم وسلاحهم وعددهم وتعلقوا بها، وظنوا أنهم في مأمن من عذاب الله تعالى،
فأخزاهم، وجعل تدبيرهم تدميرًا عليهم؛ يقول -جل وعز-: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ ... فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ)
أيها المسلمون: إننا اليوم بحاجة إلى تعمير قلوبنا بالإيمان والعمل بهذا الدين، والتعلق بالله
لتستقيم حياتنا وتتبدل أوضاعنا ونخرج من الإحباط الذي تعيشه أمتنا أفرادًا وجماعات
ولتعلم -أيها المسلم- أنه قد يتحول كل شي ضدك ويبقى الله معك، فكن مع الله يكن كل شي معك، ومن عرف الله في الرخاء يعرفه في الشدة .
المراجع : عدة مواقع بتصرف .